من المفارقات بين المجتمع الغربي الذي نُحث للحاق به، والمجتمع الإسلامي، أن الوحدة الأساسية للمجتمع الغربي تتمثل في "الفرد" ولما كان الفرد "في المنظومة الليبرالة" هو الأساس كان عليه اضطرارا أن يسعى للكفاية المادية وللإنتاجية ولتحقيق ذاته في المجتمع -ولا معنى لتحقيق الذات سوى بتحقيق المكانة الاجتماعية التي لا تعترف إلا بما هو مادي فقط-، لذا فإن كيان الأسرة كيان معيق -بنظرهم- للمرأة، فكان السعي الحثيث لتفكيك الأسرة، ونرى حاليا كيف أن الزواج قد انحصر، بل تعيش المرأة الغربية عشيقة وعاملة، تنفق على نفسها وتقابل عشيقها بانحطاط وبهيمية آخر الليل؛ ويذهب في الصباح كل واحد منهما لحال سبيله. بينما الوحدة الأساسية في المجتمع الإسلامي هي كيان "الأسرة" كنواة للمجتمع، فعظم الإسلام دور المرأة لأنها القيم على الأسرة، والأسرة هي قناة اتصال سلسة لتوريث الأبناء والذرية قيم المجتمع الإسلامي، مع حماية هؤلاء الصغار من أي مؤثر خارجي فاسد مادي أو معنوي، ولذلك هي حائط سد وصد أمام تغيير العوائد وانحراف الأخلاق، ومن دون الأسرة لا يستمر المجتمع المسلم ويتفتت. والأمومة في نظر الإسلام عمل مكرم معظم معترف به، ولها عطاء مقدر من بيت المال، يحدده الإمام وولي الأمر، ولا تسمى عاطلة كما توصم ربة البيت الآن ((قال الإمام مالك: كان عمر بن الخطاب يقسم للنساء، حتى أن كان ليعطيهن المسك)). أن تسعي المرأة للعمل خارجا وتترك البيت نصف اليوم، معناه أن تعيش نصف حياة فقط مع أولادها، هذا لو خلص لهم الباقي، وتترك كل المؤثرات الأخرى من النت والتلفاز والدش والأصدقاء والمدرسة والمعارف والأقارب تتكفل هي بتربيتهم، أي أنها كأم لم تعد المؤثر الأول بل أصبحت المؤثر المائة إن بقي لها تأثير، ومن ثم تتحول الأم مع الوقت لمجرد منظم لعملية الإقامة في الفندق/ المنزل، مواعيد الطعام وتجهيزه، مواعيد الواجبات المدرسية، ومواعيد وشرب الشاي وبعض الحلويات، ومن ثم فالنوم. ناهيك عن تدهور العلاقة بالزوج، فتصبح الحياة بين الزوج وزوجته العاملة في الأغلب كروتين بيروقراطي قذر، ويذهب الدفء والسكن، فكلا الزوجين موظفان عليهما الاستيقاظ مبكرا، واحترام مواعيد العمل؛ فتنحسر العاطفة ويختفي الود ويضمحل الأمان وتحل الآلية والبرودة وتطغى العملية المطلقة على الجو العام للبيت. أن يتحول الزوج والأب لمجرد مصدر دخل فهي كارثة وجريمة وتقصير في حق أولاده وبيته، ثم هي جناية وخطيئة في حق مجتمعه المسلم الذي وكل له مهمة تحويل الأبناء لعباد صالحين، فكيف يكون الوضع حينما تتحول الأم هي الأخرى لمجرد مصدر للدخل، ويظلون يعقون أبنائهم طوال الحياة بتركهم هملا بلا ضابط ولا رابط، مجرد محافظ وكروت ذكية لصرف الأموال، آلات بلا روح، فهل هذه أسرة ينتظر من أبنائها أن يكونوا لبنات صالحة لبناء المجتمع المسلم؟! إن لم تكوني محتاجة حاجة شديدة ضرورية للعمل، بعيدا عن تعظيم الاستهلاك والعيش في مستوى مادي مرفه؛ فتوقفي فورا عن ترك أولادك لسباع الشركات وضواري الإعلام وإغواء الواقع وملهيات الحياة تلتهم أديانهم كل يوم وتحولهم لمسوخ مادية لا تعرف ربها، وقفي لله العظيم وقفة تكون لك ذخرا وترين أثرها في الآخرة.
العمل في مطلقه للرجل أو المرأة -التي تضطرها الظروف المعيشية في دولنا غالبا للعمل- من المفترض أنه وسيلة للرزق، وليس غاية نحيا لأجلها.
وكثيرات من النساء من قبل كن يعملن، ويشاركن في دخل الأسرة بحياكة أو تطريز أو غيره، فليس المقصود من كلامنا الهجوم على أي سبيل ترتزق منه المرأة؛ ليُحتج علينا بعمل السيدة خديجة.
عمل السيدة خديجة وغيرها من مفاخر العرب، فقد كان للأنثى العربية من الجاهلية ذمتها المالية الخاصة، وذلك ما لم تعرفه أوروبا إلا في العصر الحديث، واعتبر تحررا.
فلا أحد يعيب جنس العمل في حد ذاته، إنما هيئته المعاصرة وما يعتقد فيه
فأن يعمل الفرد ثماني ساعات يوميا، مع أوقات الذهاب والمجيء، فتُذهب الوظيفة نصف يومه= فتلك عبودية للدولة وللرأسمالية.
متى ينام ومتى يصحو، وكيف له العناية بنفسه، فضلا عن أطفاله وزوجته؟!
أو يتزاور مع أقاربه أو يصل رحمه أو يتنزه مع عائلته أو يتعلم ويقرأ ويتثقف؟!
أو أو أو ..
لا وقت لأي شيء مطلقا، فمجرد أن تأكل وبنيك ذلك يعني أن تستعبد.
ثم تروج تلك العبودية للمرأة بأنها تحقيق ذات، فهذه خدعة كبرى، ويا ليتها حتى تصل لتحقيق الذات بالمعنى الفرداني الغربي.
المرأة العربية لا تصل لحد الكفاية في الأولويات الفسيولوجية من مأكل ومشرب، يعني لا تصل لأول قاعدة هرم ماسلو؛ فكيف تصل لقمته؟!
تكمن المعضلة في دلالة اللفظ "تحقيق الذات"، ذلك بأنه محمل بكل معاني الفردانية، فيجعل العمل غاية في ذاته، ومنه يستمد الفرد قيمته الوجودية.
فالسعي المحموم خلف العمل من هذا المنظور ومن غير ما حاجة له -لبعض النساء- وبجعله وراء مسئوليات الذرية = لهي الخديعة الكبري .
فالفلسفات الغربية المعاصرة والعربية التابعة لها كالذيل ترى أن المرأة التي تعمل في بيتها فقط، وتربي أولادها وتعتني بهم، وتخرج النشء الصالح = ليست منتجة!
ولو سألت أي أم الآن: ماذا تعمل؟ لقالت: لا شيء، فقد ترسخ عند الجميع أن العمل موجود فقط في الحياة العامة، الذي تتقاضى عليه أجرا.
بينما -بمقاييس الاقتصاد المعاصر والمعايير الفاسدة- المرأة التي تعمل في الملاهي، وتشبع رغبات الذئاب أكثر انتاجا من المعلمة والطبيبة ما دامت أكثر أجرا، فضلا عن المرأة الفاضلة الأولى.
الأمومة ورعاية الأطفال عمل غير مجد اقتصاديا وغير نافع، مع رؤية متمركزة للإناث حول ذواتهن، تود المرأة اكتشاف ذاتها وتحقيقها خارج أي إطار اجتماعي، في حالة صراع كوني أزلي مع الرجل المتمركز حول ذاته، كما يقول المسيري:
(الخطاب المتمركز حول الأنثى هو خطاب تفكيكي يهدف إلى توليد القلق والضيق والملل وعدم الطمأنينة في نفس المرأة، عن طريق إعادة تعريفها، بحيث لا يمكن أن تحقق هويتها إلا خارج الأسرة، وإذا انسحبت المرأة من الأسرة تآكلت الأسرة وتهاوت، وتهاوى معها أهم الحصون ضد الهيمنة الغربية)
ذلك أنها حضارة مادية للنخاع، لا تقيم شأنا للقيم الاجتماعية ولا الأخلاقية، تتنفس وحشية المادة وقيمها، وبها تزن وإليها تحتكم.
وليس هذا ديننا ولا نظرتنا للحياة والإنسان والمجتمع.